عظم الله أجوركم
نرفع أحر التعازي بمناسبة استشهاد الإمام زين العابدين عليه السلام إلى مقام الرسول الأعظم ص وأهل بيته الأطهار وإلى مقام الإمام الحجة ارواحنا لتراب مقدمه الفداء وإلى العلماء الأعلام وإلى الأمة الإسلامية وإليكم أيها الأخوة والأخوات...
وإليكم نبذة من سيرته الطاهرة
الإمام زين العابدين (عليه السلام)
الاسم : الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)
اسم الأب: الإمام الحسين (ع).
اسم الأم: شهربانو
تاريخ الولادة: 15 جمادي الأولى سنة 36 للهجرة
محل الولادة: المدينة
تاريخ الاستشهاد: 25 محرم سنة 95 للهجرة
محل الاستشهاد: المدينة
محل الدفن : المدينة (البقيع)
أم الإمام
باسمه تعالى
يقولون: ولم كانت أمّه ابنة أحد كبار الإيرانيين؟
إنّ أمّ نبيّ الله إسماعيل (ع) كانت ابنةً من بلاط فرعون مصر؛ وهذا من آيات الله سبحانه، إذ تلتقي أمّة بأمة، ويلتقي بحر ببحر، فتنبثق عن هذا اللقاء لآلىء لا تقدّر بثمن. فزوجة فرعون رزقت نعمة الإيمان بعملها الصالح، وابن نوح بعد عن بيت النبوة لأنّ عمله كان غير صالح. وابنة كسرى شرّفتها إرادة الله بالإيمان، وجعلت من ابنة قيصر أمّا لإمام الزمان (عج)، ولكنّ المنافقين لا يؤمنون. فالإيمان والتقوى والعمل الصالح هي المعيار، وفيها القربى إلى الله.
أخلاق إسلامية
جيء بأسرى فارس بعد فتحها من قبل المسلمين إلى مدينة الرسول (ص)، وبعد أن قام الخليفة
[ 5 ]
باستعراضهم، أمر بأن يوزّعوا على أفراد الجيش الظّافر، كما جرت العادة أيّام الفتح الإسلاميّ. وكانت لأوامر الخليفة آثار مختلفة على الفريقين؛ ففي حين غمر الفرح وجوه المهاجرين والأنصار، اكتست وجوه الأسرى بالحزن والأسى.
وقفت بنات «يزدجرد» وأحفاده يرقبون في ذلٍّ وانكسار عمليّة التّوزيع، وهم يتساءلون عمّا يخبّئه لهم المستقبل المجهول، ويذكرون بأسى الآمال العريضة التي كانت إلى حين قريب تملأ قلوبهم وجوانحهم. كانوا ينعمون بأسباب العزّ والجاه، والحياة الرّغيدة. وهم الآن يتساءلون عمّا أوصلهم إلى ما هم فيه، ومن هو المسؤول عن هذا الهوان، هل يلومون قادة جيوشهم، أم يوجّهون اللّوم إلى آبائهم؟ هل يا ترى لو أنّ كبير الفرس «خسرو برويز» لم يمزّق كتاب رسول الله؛ يوم كتب إليه يدعوه إلى الإسلام؛ لتغيّرت النتائج ؟ لكنّ تساؤلاتهم بقيت دون جواب، فهم لا يدرون أنّ {ذلك جزيناهم بما كفروا، وهل نجازي إلاّ الكفور}.
لم يمرّ وقت طويل على وقوف الأسرى أمام
[ 6 ]
الخليفة، حين تقدّم منه شابّ وبادره بالقول: لقد سمعت رسول الله (ص) يوصي باحترام كبار القوم وأشرافهم؛ ومراعاة قدرهم وكرامتهم؛ وإنّ هؤلاء الأسرى ذوو حسب رفيع، ولا يحسن بنا كمسلمين أن ندعهم في الأسر، وأنا أعلن عتق نصيبي منهم لوجه الله ورسوله.
لم يكن هذا الشابّ غير عليّ بن أبي طالب(ع)، وكان لمبادرته هذه وقع حسن لدى الجميع، فلم يلبث المهاجرون والأنصار من الحضور أن حذوا حذوه، وفعلوا فعله.
عليك الصلاة والسلام يا رسول الله، فهذا درس من دروس لا تحصى علّمته لأمّتك في حسن الخلق، حين أكرمت ابن حاتم الطائيّ رغم إشراكه، لأنّه ابن رجل كريم جواد، هو حاتم الطائيّ، الشاعر الجاهليّ المعروف بسخائه وكرمه. وهذا وصيّك الأمين، يبيّن للناس بعدك سيرتك الشريفة.
لقد تركت مبادرة عليّ عليه السلام أثراً طيّباً في نفوس الأسرى الإيرانيّين، فشعروا بالأمان والرّاحة بعد القلق، ولم يعد المستقبل مجهولاً لديهم بعد الآن،
[ 8 ]
فهم في كنف وحماية الإسلام، بتعاليمه الطيّبة السّمحة، التي لا تفرّق بين عربيّ وأعجميّ، أو بين أبيض وأسود، فالكلّ في الإسلام سواء؛ وهم في كنف وحماية أميرالمؤمنين. وخير المسلمين بعد رسول الله. وأحسّوا بعد الاطمئنان إليه بمحبّته تعمر قلوبهم.
العناية الإلهيّة
لم يمض وقت طويل بعد هذه الواقعة، حين تمّ اختيار «شهربانو» بنت «يزدجرد» زوجةً للإمام الحسين الابن الأصغر لعليّ عليهما السلام (1)، وأنجبت للحسين ابنه الثاني فأسماه عليّا الأصغر وهو المعروف بلقبه «زين العابدين» لكثرة تعبّده وتقواه (2)، وهو الإمام الرابع من أهل البيت (ع).
كان زين العابدين عليه السلام أشبه الناس بجدّه علي بن أبي طالب عليه السلام. (3) فقوّته وشجاعته،
_____________________________________
(1) روت المصادر التاريخية قصّة «شهربانو» على هذه الصورة، وهذا واقع يجهله بعض المؤرخين.
(2) بعد ولادة آخر طفل للإمام الحسين (ع) أسموه علياً، واشتهر باسم (عليّ الأصغر) وصار زين العابدين (ع) من يومها يعرف بـ (عليّ الأوسط).
(3) في حين كان عليّ الأصغر أشبه الناس برسول الله (ص).
[ 9 ]
وصبره وتجلّده، وتعبّده وتقواه، وعلمه ومعرفته أمور تذكّر بجدّه عليهما السلام. ويروى أنّه حين توجّه مع أبيه في قافلة الشهادة إلى كربلاء، كان يطفح تصميماً وعزيمةً؛ وبعد النزول في كربلاء، وبدء الاستعداد للقتال، تمّ تخصيص كلّ فردٍ بدرعٍ وسيفٍ، وكانت الدرع التي خصّصت لزين العابدين طويلة تصل حتى ركبتيه، فما كان منه إلاّ أن لوى طرفها بمقدار الزيادة، ثمّ كسرها بيديه حتى غدت ملائمةً لطوله، فلا تعيق حركته. فارتفع صدى الاستحسان من الحاضرين لما رأوه من شدّته وقوّته. لكنّه لم يقدّر له استخدام قوّته هذه يوم النزال، فقد ظهرت عليه في تلك الليلة آثار حمّى شديدة لم تلبث أن طرحته في الفراش.
وهكذا شاءت العناية الإلهيّة أن يكون علي الصغير طريح فراش المرض، في قلب المعركة، ولكنّه بعيد عنها، الأمر الذي جنّبه القتل، وحفظ نسل رسول الله من الانقراض. رغم حرص طغاة يزيد على قتل أبناء الحسين جميعهم، لكنّ إرادة الله سبحانه، النافذة في كلّ أمر، والقادرة فوق كلّ قدرة، رعته وحفظته خلال المعركة وبعدها، حين تعرّض للقتل أكثر من مرّةٍ.
[ 10 ]
وانجلت المعركة عن فوز أحباب الله أباة الضّيم بشرف الشهادة، بعد أن سطّروا أروع ملحمةٍ في التاريخ، وباء أعداء الله بالخسران المبين.
وسيق من تبقّى من أهل بيت النبوّة أسرى مكبّلين بالأغلال إلى الكوفة، وكلّهم من النساء والأطفال، غير زين العابدين (ع).
الإمام يواجه ابن زياد
وفي الكوفة، في مجلس ابن زياد، وقف الطاغية يشمت ويتشفّى، وحوله زبانيته وجلاوزته، ولمّا انتهى من نفث سموم حقده على النساء والأطفال دون أن يجرؤ أحد على التفوّه بحرف، خوفاً من بطشه وقسوته، التفت إلى الإمام وقال له: من أنت ؟ قال: أنا عليّ بن الحسين، فردّ عليه بقوله: أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟ فأجابه الإمام: كان لي أخ يسمّى عليّاً قتله الناس، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال الإمام: الله يتوفّى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال: أبك جرأة على ردّ جوابي؟ وأمر جلاوزته بقتله. فتعلّقت به عمّته زينب واعتنقته
[ 11 ]
وقالت: يابن زياد، حسبك من دمائنا ما سفكت. والله لا أفارقه، فإن أردت قتله فاقتلني معه. فرقّ لها وتركه كما يروى.
في مواجهة الطاغية يزيد
عند ما سيق آل الرسول إلى الشام قيل للناس إنّ هؤلاء الأسرى هم من العصاة الذين خرجوا لإثارة الفتن، فاقتضى الأمر تأديبهم.
دخلت قافلة الأسرى دمشق، وكان يزيد قد أمر بتزيين مجلسه، وجمع حوله الكبار والأعيان، دون أن ينسى ضمّ أمثاله من رفاق السّوء. ليشاركوه (نصره) وأفراحه. كما بدت الشام بأبهى مظاهر الزينة والفرح
أدخل الأسرى إلى مجلس يزيد، وحينما وضعت الرؤوس الشريفة بين يديه أنشد:
نفلّق هاماً من رجالٍ أعزّةٍ *** علينا وقد كانوا أعقّ وأظلما
ثم التفت إلى زين العابدين وقال: أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سلطاني، فصنع به الله ما قد رأيت. فقال الإمام: «{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها، إنّ
[ 12 ]
ذلك على الله يسير، لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحبّ كلّ مختالٍ فخور}.
فأمر يزيد أحد أنصاره أن يصعد المنبر وينال من عليّ والحسن والحسين عليهم السلام، ففعل ونال منهم، كما أثنى على معاوية، فقال له الإمام: ويلك أيّها المتكلّم، لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النار. ثمّ التفت إلى الجلوس وقال:
«أيّها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي . . أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى . . أنا أنا . .». ولم يزل يقول أنا، ويعدّد على الحضور مآثر جدّيه رسول الله وأميرالمؤمنين، وأبيه أبي عبد الله الحسين، ويذكر ما جرى في طفّ كربلاء حتّى ضجّ الناس بالبكاء. وخشي يزيد أن ينتقض أهل الشام عليه فأمر المؤذّن أن يؤذّن ليقطع حديثه. فلمّا قال المؤذّن: الله اكبر قال (ع): لا شيء أكبر من الله، ولمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله قال الإمام (ع): شهد بها لحمي ودمي وبشري
[ 13 ]
وشعري، ولمّا قال: أشهد أنّ محمداً رسول الله، التفت الإمام إلى يزيد وقال: محمد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت. وإن زعمت أنّه جدّي فلم قتلت عترته ؟
أسقط في يد يزيد، ورأى أنّ خير ما يفعله هو التعجيل بترحيل الأسرى إلى المدينة، تداركاً لغضبة أهل الشام.
يتبع......
نرفع أحر التعازي بمناسبة استشهاد الإمام زين العابدين عليه السلام إلى مقام الرسول الأعظم ص وأهل بيته الأطهار وإلى مقام الإمام الحجة ارواحنا لتراب مقدمه الفداء وإلى العلماء الأعلام وإلى الأمة الإسلامية وإليكم أيها الأخوة والأخوات...
وإليكم نبذة من سيرته الطاهرة
الإمام زين العابدين (عليه السلام)
الاسم : الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)
اسم الأب: الإمام الحسين (ع).
اسم الأم: شهربانو
تاريخ الولادة: 15 جمادي الأولى سنة 36 للهجرة
محل الولادة: المدينة
تاريخ الاستشهاد: 25 محرم سنة 95 للهجرة
محل الاستشهاد: المدينة
محل الدفن : المدينة (البقيع)
أم الإمام
باسمه تعالى
يقولون: ولم كانت أمّه ابنة أحد كبار الإيرانيين؟
إنّ أمّ نبيّ الله إسماعيل (ع) كانت ابنةً من بلاط فرعون مصر؛ وهذا من آيات الله سبحانه، إذ تلتقي أمّة بأمة، ويلتقي بحر ببحر، فتنبثق عن هذا اللقاء لآلىء لا تقدّر بثمن. فزوجة فرعون رزقت نعمة الإيمان بعملها الصالح، وابن نوح بعد عن بيت النبوة لأنّ عمله كان غير صالح. وابنة كسرى شرّفتها إرادة الله بالإيمان، وجعلت من ابنة قيصر أمّا لإمام الزمان (عج)، ولكنّ المنافقين لا يؤمنون. فالإيمان والتقوى والعمل الصالح هي المعيار، وفيها القربى إلى الله.
أخلاق إسلامية
جيء بأسرى فارس بعد فتحها من قبل المسلمين إلى مدينة الرسول (ص)، وبعد أن قام الخليفة
[ 5 ]
باستعراضهم، أمر بأن يوزّعوا على أفراد الجيش الظّافر، كما جرت العادة أيّام الفتح الإسلاميّ. وكانت لأوامر الخليفة آثار مختلفة على الفريقين؛ ففي حين غمر الفرح وجوه المهاجرين والأنصار، اكتست وجوه الأسرى بالحزن والأسى.
وقفت بنات «يزدجرد» وأحفاده يرقبون في ذلٍّ وانكسار عمليّة التّوزيع، وهم يتساءلون عمّا يخبّئه لهم المستقبل المجهول، ويذكرون بأسى الآمال العريضة التي كانت إلى حين قريب تملأ قلوبهم وجوانحهم. كانوا ينعمون بأسباب العزّ والجاه، والحياة الرّغيدة. وهم الآن يتساءلون عمّا أوصلهم إلى ما هم فيه، ومن هو المسؤول عن هذا الهوان، هل يلومون قادة جيوشهم، أم يوجّهون اللّوم إلى آبائهم؟ هل يا ترى لو أنّ كبير الفرس «خسرو برويز» لم يمزّق كتاب رسول الله؛ يوم كتب إليه يدعوه إلى الإسلام؛ لتغيّرت النتائج ؟ لكنّ تساؤلاتهم بقيت دون جواب، فهم لا يدرون أنّ {ذلك جزيناهم بما كفروا، وهل نجازي إلاّ الكفور}.
لم يمرّ وقت طويل على وقوف الأسرى أمام
[ 6 ]
الخليفة، حين تقدّم منه شابّ وبادره بالقول: لقد سمعت رسول الله (ص) يوصي باحترام كبار القوم وأشرافهم؛ ومراعاة قدرهم وكرامتهم؛ وإنّ هؤلاء الأسرى ذوو حسب رفيع، ولا يحسن بنا كمسلمين أن ندعهم في الأسر، وأنا أعلن عتق نصيبي منهم لوجه الله ورسوله.
لم يكن هذا الشابّ غير عليّ بن أبي طالب(ع)، وكان لمبادرته هذه وقع حسن لدى الجميع، فلم يلبث المهاجرون والأنصار من الحضور أن حذوا حذوه، وفعلوا فعله.
عليك الصلاة والسلام يا رسول الله، فهذا درس من دروس لا تحصى علّمته لأمّتك في حسن الخلق، حين أكرمت ابن حاتم الطائيّ رغم إشراكه، لأنّه ابن رجل كريم جواد، هو حاتم الطائيّ، الشاعر الجاهليّ المعروف بسخائه وكرمه. وهذا وصيّك الأمين، يبيّن للناس بعدك سيرتك الشريفة.
لقد تركت مبادرة عليّ عليه السلام أثراً طيّباً في نفوس الأسرى الإيرانيّين، فشعروا بالأمان والرّاحة بعد القلق، ولم يعد المستقبل مجهولاً لديهم بعد الآن،
[ 8 ]
فهم في كنف وحماية الإسلام، بتعاليمه الطيّبة السّمحة، التي لا تفرّق بين عربيّ وأعجميّ، أو بين أبيض وأسود، فالكلّ في الإسلام سواء؛ وهم في كنف وحماية أميرالمؤمنين. وخير المسلمين بعد رسول الله. وأحسّوا بعد الاطمئنان إليه بمحبّته تعمر قلوبهم.
العناية الإلهيّة
لم يمض وقت طويل بعد هذه الواقعة، حين تمّ اختيار «شهربانو» بنت «يزدجرد» زوجةً للإمام الحسين الابن الأصغر لعليّ عليهما السلام (1)، وأنجبت للحسين ابنه الثاني فأسماه عليّا الأصغر وهو المعروف بلقبه «زين العابدين» لكثرة تعبّده وتقواه (2)، وهو الإمام الرابع من أهل البيت (ع).
كان زين العابدين عليه السلام أشبه الناس بجدّه علي بن أبي طالب عليه السلام. (3) فقوّته وشجاعته،
_____________________________________
(1) روت المصادر التاريخية قصّة «شهربانو» على هذه الصورة، وهذا واقع يجهله بعض المؤرخين.
(2) بعد ولادة آخر طفل للإمام الحسين (ع) أسموه علياً، واشتهر باسم (عليّ الأصغر) وصار زين العابدين (ع) من يومها يعرف بـ (عليّ الأوسط).
(3) في حين كان عليّ الأصغر أشبه الناس برسول الله (ص).
[ 9 ]
وصبره وتجلّده، وتعبّده وتقواه، وعلمه ومعرفته أمور تذكّر بجدّه عليهما السلام. ويروى أنّه حين توجّه مع أبيه في قافلة الشهادة إلى كربلاء، كان يطفح تصميماً وعزيمةً؛ وبعد النزول في كربلاء، وبدء الاستعداد للقتال، تمّ تخصيص كلّ فردٍ بدرعٍ وسيفٍ، وكانت الدرع التي خصّصت لزين العابدين طويلة تصل حتى ركبتيه، فما كان منه إلاّ أن لوى طرفها بمقدار الزيادة، ثمّ كسرها بيديه حتى غدت ملائمةً لطوله، فلا تعيق حركته. فارتفع صدى الاستحسان من الحاضرين لما رأوه من شدّته وقوّته. لكنّه لم يقدّر له استخدام قوّته هذه يوم النزال، فقد ظهرت عليه في تلك الليلة آثار حمّى شديدة لم تلبث أن طرحته في الفراش.
وهكذا شاءت العناية الإلهيّة أن يكون علي الصغير طريح فراش المرض، في قلب المعركة، ولكنّه بعيد عنها، الأمر الذي جنّبه القتل، وحفظ نسل رسول الله من الانقراض. رغم حرص طغاة يزيد على قتل أبناء الحسين جميعهم، لكنّ إرادة الله سبحانه، النافذة في كلّ أمر، والقادرة فوق كلّ قدرة، رعته وحفظته خلال المعركة وبعدها، حين تعرّض للقتل أكثر من مرّةٍ.
[ 10 ]
وانجلت المعركة عن فوز أحباب الله أباة الضّيم بشرف الشهادة، بعد أن سطّروا أروع ملحمةٍ في التاريخ، وباء أعداء الله بالخسران المبين.
وسيق من تبقّى من أهل بيت النبوّة أسرى مكبّلين بالأغلال إلى الكوفة، وكلّهم من النساء والأطفال، غير زين العابدين (ع).
الإمام يواجه ابن زياد
وفي الكوفة، في مجلس ابن زياد، وقف الطاغية يشمت ويتشفّى، وحوله زبانيته وجلاوزته، ولمّا انتهى من نفث سموم حقده على النساء والأطفال دون أن يجرؤ أحد على التفوّه بحرف، خوفاً من بطشه وقسوته، التفت إلى الإمام وقال له: من أنت ؟ قال: أنا عليّ بن الحسين، فردّ عليه بقوله: أليس قد قتل الله عليّ بن الحسين؟ فأجابه الإمام: كان لي أخ يسمّى عليّاً قتله الناس، فقال ابن زياد: بل الله قتله، فقال الإمام: الله يتوفّى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال: أبك جرأة على ردّ جوابي؟ وأمر جلاوزته بقتله. فتعلّقت به عمّته زينب واعتنقته
[ 11 ]
وقالت: يابن زياد، حسبك من دمائنا ما سفكت. والله لا أفارقه، فإن أردت قتله فاقتلني معه. فرقّ لها وتركه كما يروى.
في مواجهة الطاغية يزيد
عند ما سيق آل الرسول إلى الشام قيل للناس إنّ هؤلاء الأسرى هم من العصاة الذين خرجوا لإثارة الفتن، فاقتضى الأمر تأديبهم.
دخلت قافلة الأسرى دمشق، وكان يزيد قد أمر بتزيين مجلسه، وجمع حوله الكبار والأعيان، دون أن ينسى ضمّ أمثاله من رفاق السّوء. ليشاركوه (نصره) وأفراحه. كما بدت الشام بأبهى مظاهر الزينة والفرح
أدخل الأسرى إلى مجلس يزيد، وحينما وضعت الرؤوس الشريفة بين يديه أنشد:
نفلّق هاماً من رجالٍ أعزّةٍ *** علينا وقد كانوا أعقّ وأظلما
ثم التفت إلى زين العابدين وقال: أبوك قطع رحمي وجهل حقّي ونازعني سلطاني، فصنع به الله ما قد رأيت. فقال الإمام: «{ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلاّ في كتاب من قبل أن نبرأها، إنّ
[ 12 ]
ذلك على الله يسير، لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، والله لا يحبّ كلّ مختالٍ فخور}.
فأمر يزيد أحد أنصاره أن يصعد المنبر وينال من عليّ والحسن والحسين عليهم السلام، ففعل ونال منهم، كما أثنى على معاوية، فقال له الإمام: ويلك أيّها المتكلّم، لقد اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النار. ثمّ التفت إلى الجلوس وقال:
«أيّها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي . . أنا ابن محمد المصطفى، أنا ابن علي المرتضى . . أنا أنا . .». ولم يزل يقول أنا، ويعدّد على الحضور مآثر جدّيه رسول الله وأميرالمؤمنين، وأبيه أبي عبد الله الحسين، ويذكر ما جرى في طفّ كربلاء حتّى ضجّ الناس بالبكاء. وخشي يزيد أن ينتقض أهل الشام عليه فأمر المؤذّن أن يؤذّن ليقطع حديثه. فلمّا قال المؤذّن: الله اكبر قال (ع): لا شيء أكبر من الله، ولمّا قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله قال الإمام (ع): شهد بها لحمي ودمي وبشري
[ 13 ]
وشعري، ولمّا قال: أشهد أنّ محمداً رسول الله، التفت الإمام إلى يزيد وقال: محمد هذا جدّي أم جدّك؟ فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت وكفرت. وإن زعمت أنّه جدّي فلم قتلت عترته ؟
أسقط في يد يزيد، ورأى أنّ خير ما يفعله هو التعجيل بترحيل الأسرى إلى المدينة، تداركاً لغضبة أهل الشام.
يتبع......
تعليق